كنت في حيرة: ماذا أفعل؟ أودعتُ القرص الثلاجة وانصرفت إلى مشاغلي. وبعد يومين تذكرت العسل، ومثل أغلب الناس عديمي الخبرة في تصفية العسل، توجهت إلى الإنترنت وفهمتُ – نوعًا ما – كيف يجب أن نُصفّي العسل من الخلايا.
ونظرًا لأني لا أملك وسائل تكنولوجية، فكان لا بد من الاستعانة بالجاذبية. ففتح الخلايا الشمعية والانتظار هو السبيل للحصول على العسل. وبعد يومين من الجهد، استطعت تصفية نصف الخلية، لكن العسل كان مليئًا بالشوائب من شمع الخلية. لا بأس، نستمر في القسم الثاني، الذي قرر أن الجاذبية لا تكفي – ربما بسبب برودة طقس نيسان هذا العام – فقد اقترب العسل إلى حالة التجمد. ولكني لا أملك كل الوقت، فكان لا بد من الارتجال. وهكذا بدأت في استعمال بعض أدوات المطبخ، كمكبس أو مصفاة، حتى استطعت تجميع قرابة نصف لتر من العسل الصافي، وبقي النصف الآخر ينتظر موعدًا جديدًا لنكمل المشوار.
بدأتُ بمقارنة العسل الذي اشتريته من صديقي صالح شيني، وهو رجل ثقة، وأحاول جاهدًا تغيير الحقيقة لنفسي بأن هذا العسل أطيب من ذاك. تذوقتُ الأول ثم الثاني، ثم عدت بالعكس، وجاءت النتيجة أني لا أجد حرجًا أو فرقًا بينهما، فكليهما طيب. الأول دفعت المال واستلمته، والثاني استلمت كمية مشابهة بعد معركة استمرت أيامًا، تدخلت فيها أدوات ومعارك، وما زال بقية العسل ينتظر أن يُصفّى.
من الطبيعي أن كثيرًا من القراء سيكون بين الضاحك والنافي والمؤيد لبعض الخطوات، لكن ما أذهلني ليس العسل وتصفـيته وطعمه، بل شيء آخر أعطاني القوة في الاستمرار. عند تصفية العسل، كان ينساب خلال المصفاة بهدوء عجيب ورتابة دون شوائب، وهنا كأنني صحوت للمرة الأولى: كم نحلة عملت بهدوء بين الزهور؟ كم حبّة لقاح نقلت بها؟ كم دورة طارت هذه النحلة حتى يمتلئ هذا القرص بالعسل؟ كم وكم… في كل سؤال أسمع طنين النحل في أذني.
يا الله، ربما ذلك العسل الذي تنازلت عنه في النهاية وبقي في صحن التجميع، قد يكون جهد آلاف النحل. ملعقة صغيرة قد تكون جهد آلاف النحلات ليوم كامل من الطيران.
الموضوع هنا تراكميّ المبدأ، تراكميّ الجهد، تراكميّ الإيمان بالمجموعة. الفرد مهم إذا انضبط في مهمة واضحة المعالم. النحلة تطير يوميًا بمعدل يتجاوز العشرة كيلومترات، وبعضنا لا يتحرك من كرسيه عشر هذه المسافة. وبين الرحيق والزهر وأنواعه، تعود النحلة للعمل دون غياب، دون أعذار، دون لفّ أو دوران خارج منظومة الجهد الجماعي.
اثنا عشر ألف نحلة يجب أن تعمل وتقطع مسافة مئة وخمسين ألف كيلومتر حتى نتذوق كيلوغرامًا واحدًا من العسل! يا للهول، كما تقول العرب. مخلوق صغير منضبط مع نفسه، ودوره في الحياة مرتب بكل التفاصيل، دون فلسفة معقدة. وفي النهاية، من يأكل العسل في الغالب ليس هو، بل نحن.
هي حقيقة علمية، لكنها صدمتني بحق. إننا في غمرة زيف الحياة لم ندرك أسسها، وتناسينا المبادئ الأساسية في كل حياتنا. لست هنا لأعظكم حول دوركم في الحياة، ولا حتى لأعقد مقارنة بين النحل والبشر، أنا فقط أقول لنفسي إن أبا الطيب المتنبي كان حكيمًا عندما قال: “فلا بد دون الشهد من إبر النحل”، ولكنه لم يعرف أن النحل لا يلسعنا دفاعًا عن العسل، بل ليقول لنا: أنتم لم تدركوا بعد ما هو الجهد المطلوب للرقي… لتدركوا ما بين أيديكم .
وحتى نلتقي، تراكميّة العمل والجهد مع النظام الدقيق، وفي المكان والزمان الصحيحين، تؤتي أطيب العسل وأطيب حياة، خير مؤسسة، وعدلًا، ورقيًا وكرامة.
أما أنا، فمن اليوم، عندما أشتري العسل الصافي، فسأتذكر النحلة الدؤوبة التي قضت عمرها حتى أضع ملعقة واحدة على خبزة محمصة في الصباح.