‘حتى نلتقي- مرايا ‘ - بقلم : يوسف أبو جعفر
هذه التغيّرات الغريبة في حالة الطقس في منطقة تعوّدت طقسًا متناغمًا مع أيام العام: ذروة الصيف تموز وآب، وذروة البرد كانون، وبينهما تتحرّك درجة الحرارة هبوطًا أو ارتفاعًا؛ التغيّرات تركتنا في حيرة من التخطيط، نحن الذين تعوّدنا الرتابة في الأمور.
الغريب أننا لاحظنا التغيّر في حالة الطقس، ولم نشاهد التغيّرات الأخرى، فكل شيء منذ زمن لم يَعُد كما كان. ليس الطقس وحده، العالم من حولنا تغيّر كليًا، ونحن تغيّرنا حتى ما عدنا نعرف أنفسنا. نحن أمام مرآة في كل صباح تقول لنا: “صباح الخير”، ثم تخبرنا أننا الأجمل اليوم، وأننا لم نتغيّر، وأننا ما زلنا في أجمل أيام العمر، وكل شيء من حولنا على ما يرام. وحتى عندما ننظر إلى أجسادنا، تقول لنا إننا رشيقو القامة دون كرش، رغم العلامات الواضحة التي نشاهدها على أجسادنا. صدّقنا هذه المرآة.
عندما نسألها، تجيب فقط بما نحب، وتُخفي عنّا كل ما لا نريد؛ فلذلك نحن في خير، لا نرى أي شيء سوى حالة الطقس. لقد أخبرتنا أنه قد بدأ الصيف، وتجهزنا بأقمصة صيفية، ولكن برودة الطقس لسعت جلودنا، وبدأنا نشكّ في المرآة. قمنا بتنظيفها في الصباح التالي ولبسنا ملابس ثقيلة قبل الخروج، وإذا بيوم خماسيني تلهب حرارته وجوهنا. لقد قام بعضُنا بالغضب من المرآة وكاد أن يكسرها، وبعضُنا فعل، دون مقدمات. فجأة اكتشفنا التغيّرات الكبيرة؛ فلنا أرداف وكروش، والشيب والصلع قد استوليا على الرأس.
المشكلة تكمن في أن ظاهرة كسر المرايا وتنظيفها أخذت منحًى جديدًا؛ فالكلّ يريد أن يعرف الحقيقة. وهكذا بدأنا نرى الحقائق دون رتوش، ودون تزييف. المؤلم ليس التغيير الظاهر، بل المخفي. لقد بدأت المرايا بالغضب، ولم تعد تجاري الناس أهواءهم، ودون مقدمات فجّرت في وجوهنا الحقيقة. لقد أصبحنا شيئًا آخر، ما عدنا ما كنّا، نحن في واقع جديد.
أولئك الذين قرروا تحطيم المرايا ربما تحرروا من وهم الزيف، ولكنهم اصطدموا بالواقع المرير؛ فلا القيم هي نفسها، ولا الأخلاق تقترب من أحلامنا الوردية، ولا حتى الطريق واضحة المعالم. صراعٌ يحتدم ليس على ما نصبو إليه، بل نحو الهاوية. هكذا صحا بعضُنا، وقد أبحر العالم، وبقينا على جزيرة مهجورة فيها كل الخيرات، لكن أهلها يرقصون على أنغام الدحية، ولا يسمعون بكاء الأرامل والأيتام، لا يسمعون صوت أزيز الطائرات ولا القصف، لا يعرفون عن الجريمة، عن الفقر والعوز، عن الهدم، والتهجير القسري، عن كل أنواع القهر البشري.
وبين لحظة وأخرى، على كل من كسر مرآته أن يقرّر: ماذا يريد؟ ماذا عليه أن يفعل؟ هل سيشتري مرآة جديدة أم يقرّر قراءة الحقيقة دون رتوش؟ دون خوف أو وجل؟
في زمن الأسياد والعبيد، في زمن الوقوف بشجاعة أمام الظلم، في زمن الجاهلية والتجهيل، في زمن الدكتاتورية المبطّنة بالديمقراطية، في زمن التناقضات العجيبة، في زمن من يعمل لا يستطيع أن يمتلك شيئًا، ومن لا يعمل يملك كل شيء، في كل هذه وغيرها كثير، المرآة قد تجلب السعادة وتجعل من المبصرين عميانًا.
وحتى نلتقي، من أراد أن يُغطّي الشمس بالغربال، فليتفضل! ومن أراد أن يرى الحقيقة، عليه كسر مرآة الزيف والنفاق، وليقف أمام الحقيقة بكل جمالها أو صعوبتها، ولا خوف ولا حزن، بل أملٌ أن القادم أفضل .
من هنا وهناك
-
رأي في اللغة ‘إشارةٌ إلى اسم الإشارة قل: هؤلاءِ العلماء، وقل: هذهِ العلماء‘ - بقلم : د. أيمن فضل عودة
-
‘ دهشة مقدسيّة ‘ - بقلم : حسن عبادي من حيفا
-
مقال: ‘ترامب: أحبه ويُحبني وتُحب مصالحه تحالفي‘ - بقلم : أحمد سليمان العُمري
-
مقال: الخطايا الثلاث لمرشح الانتخابات - بقلم : اسعد عبدالله عبدعلي من العراق
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب : حتى نلتقي.. عسل
-
المحامي زكي كمال يكتب : ترامب .. بين قيادة العالم وجرّه إلى الهاوية
-
‘لم يكن بالإمكان أفضل مما كان‘ - بقلم : وسام بركات عمري
-
الحسّ الأنثوي في رواية ‘رحلة إلى ذات امرأة‘ للروائية المقدسية صباح بشير - بقلم : علاء الأديب
-
‘ في ذكرى وفاة أبي: لا عزيز ينسى ولو مرّ على وفاته ألف عام ‘ - بقلم : الكاتب أسامة أبو عواد
-
‘ أرجوحة ماغوطيّة ‘ - بقلم : حسن عبادي من حيفا
أرسل خبرا