logo

‘ قصتان ووقفتان ‘ - بقلم : الشيخ عبد الله عياش

بقلم : الشيخ عبد الله عياش
14-07-2025 12:20:54 اخر تحديث: 15-07-2025 04:43:01

كان عروة بن الزبير في إحدى سَفَراتِه إلى دمشق، فأصابت الأَكَلَةُ رِجْلَهُ في الطريق، وأخذت تزداد يومًا بعد يوم حتى وصل، وعرف بالأمر خليفة المسلمين آنذاك الوليد بن عبد الملك، فاستدعى له الأطباء، فأجمع رأيهم على قطعها

الشيخ عبد الله عياش عضو حركة الدعوة والإصلاح - صورة شخصية

خوفًا من سريان الداء في الساق كلها، ثم إلى الجسد بأكمله.
ولما حان وقت قطعها؛ عرضوا عليه أن يشرب الخمر حتى لا يجد أَلَمَ القطع، فقال: لا أستعين بحرام الله على ما أرجو من عافيته! ولكن إذا كنتم لا بد فاعلين؛ فافعلوا ذلك وأنا في الصلاة، فإني لا أحس بذلك ولا أشعر به. ودخل عليه قوم فأنكرهم، فسأل: من هؤلاء؟ قالوا: يمسكونك، فإن الألم ربما عَزَبَ معه الصبر، قال: أرجو أن أكفيكم ذلك من نفسي، فنشروا رجله وهو يهلل ويكبر في صلاته، ثم أغلي الزيت في مغارف الحديد، فحُسِم به موضع الجرح حتى لا ينزف، فغشي عليه من شدة الألم.

ولما أفاق رأى القَدَمَ بأيديهم، فدعا بها، فقلَّبها في يده، ثم قال: أما والذي حملني عليك، إنه ليعلم أني ما مشيت بك إلى حرام. وفي نفس الليلة التي قطعت فيها رجلُه كان له ابن اسمه (محمد) قد صحبه معه في سفره، فدخل دار الدواب فرفسته دابة فمات، فلما أُخبر بذلك لم يزد على أن قال: {لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا}.

وأُثِرَ عنه أنه كان يقول: "اللهم كانوا سبعة فأخذت واحدًا وأبقيت ستة فلك الحمد، وكان لي أطراف أربعة، فأخذتَ واحدًا وأبقيتَ ثلاثةً فلك الحمد، وأيمُ الله لئن أخذتَ لقد أبقيتَ، ولئن ابتليتَ لطالما عافيتَ".

هذه وقفتنا الأولى أيها الكرام: "لئن أخذتَ لقد أبقيتَ، ولئن ابتليتَ لطالما عافيت"، من أعظم المعينات على الصبر عند وقوع البلاء أن تنظر إلى النعم المتبقية، وهي والله كثيرة جدًا لن تحصيها عدًا، وكيف تحصيها وقد قال الله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} النحل،18.

 مرضتَ أسبوعًا؟ لا بأس، فأنت صحيح طوال العام! توفي لك قريب أو حبيب؟ لا تحزن، فقد بقي حولك من الأحباب أكثر! أنت عاطل عن العمل الآن؟ لا تجزع، فقد وجدت عملًا أكثر حياتك، ورزقك مكتوب!

فلننظر دائمًا إلى النصف الممتلئ من الكأس كما يُقال، ولكن حال الناس بصفة عامة على العكس من ذلك، ينظرون دائمًا إلى النقص والخلل، وهم مولعون بنقل المآسي والمصائب.

تأمل مثلًا وأنت تتصفح الأخبار، ماذا تجد؟ وفاة رجل إثر سقوطه من علو! احتراق بيت نتيجة تماس كهربائي! وقوع حادث طرق! سقوط طائرة بعد إقلاعها بلحظات! فيُخيّل إليك لوهلة أن العالم ليس فيه إلا المصائب. ولكن صاحب خبر حادث الطرق لم يخبرك أن هناك مئات آلاف السيارات وصل أصحابها بيوتهم بسلام. وصاحب خبر تحطم الطائرة لم يخبرك أن عشرات آلاف الرحلات الجوية قد هبطت طائراتها بسلام، وصاحب خبر احتراق البيت لم يخبرك أن آلاف البيوت ما زالت سالمة آمنة، فالأكثر والغالب بين الناس هو الصحة والعافية والسلامة والغنى.

القصة الثانية -وهي تتمةٌ للقصة الأولى- قالوا: وقَدِمَ الشام تلك السنة قوم من بني عبس فيهم رجل ضرير، فسأله الوليد بن عبد الملك عن عينيه. فقال: يا أمير المؤمنين، بِتُّ ليلةً في بطن وادٍ، ولا أعلم عبسيًا يزيد ماله على مالي، فطَرَقَنا سيلٌ، فذهب بما كان لي من أهل وولد ومال غير بعيرٍ وصبيٍ مولود، وكان البعير صعبًا، فَنَدَّ -أي نفر وشرد بعيدًا- فوضعت الصبي واتبعت البعير، فلم أجاوز إلا قليلًا حتى سمعت صيحة ابني، فنظرت فإذا رأسه في فم الذئب وهو يأكله، فلحقت البعير لأحبسه؛ فنَفَحَني برِجْلِه على وجهي فَحَطَّمه وذَهَبَ بعينيَّ، فأصبحت لا مال لي، ولا أهل، ولا ولد، ولا بصر!! فقال الوليد بن عبد الملك لما سمع قصته: "انطلقوا به إلى عروة بن الزبير ليعلم أن في الناس من هو أعظم منه بلاء".

هذه هي الوقفة الثانية، انظر إلى من هو أشد بلاء منك، وهذا هو المعين الثاني على الصبر على المصائب، وقد قال الناس: من رأى مصيبة غيره هانت عليه مصيبته. فقدت عزيزًا؟ غيرك من حولك فقد أكثر! أُقعِدتَ عن المشي في سن الكبر؟ غيرك وُلدَ مقعدًا! سيارتك 
قديمةّ؟ غيرك لا يملك سيارة! بيتك صغير؟ غيرك يسكن بالإيجار! قال النبي ﷺ: (لا تنظروا إلى من هو فوقكم، وانظروا إلى من هو دونكم فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم).

وفي الختام: تذكّر -ويجب عليك أن تتذكّر- أهلًا وإخوانًا لك أحاطت بهم المصائب من كل جانب، فإذا لم يُعجِبْكَ طعامُ البيت، فتذكر طوابير الجائعين مع آنيتهم الفارغة! وإذا مكثت في المشفى لمدة أسبوعين وضاقت بك الدنيا، فتذكر من يتمنى العلاج في مستشفى لا على الرصيف! وإذا نقص من عائلتك واحدٌ، فتذكر أن هناك عائلاتٍ قد بقي منها واحدٌ وربما مُحيت من السجل المدني! لقد شاهدنا من صور البلاء في أمتنا ما هو كفيل بتخفيف مصائب الأمة كلها، بل الإنسانية جمعاء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.