logo

بين حريّة القرار في القضاء والاستسلام لعبوديّة السياسة

بقلم: المحامي زكي كمال
14-09-2025 08:29:54 اخر تحديث: 14-09-2025 09:13:18

"وإن كان مبدأ الفصل بين السلطات، والذي يرجع إلى المفكّر الفرنسي الشهير مونتيسكيو، ويضمن الفصل بين السلطات الثلاث، التشريعيّة، التنفيذيّة والقضائيّة كما ورد في كتابه "روح القوانين"

 المحامي زكي كمال

 من العام 1748، قد بلغ من العمر مئات السنوات، ليصبح أحد المبادئ الأساسيّة التي ترتكّز عليها النظم الديمقراطيّة والليبراليّة، أو تلك التي تتغنّى بالديمقراطيّة وتدَّعيها. ويشكِّل في الوقت ذاته السلطة التي تضمن المساواة والديمقراطيّة للمواطن من جهة، ونقاء اليدين والاستقامة والشفافية في عمل السياسيّين وكبار الموظّفين وأصحاب المناصب والتأثير وتحديد معالم وحدود صلاحيّاتهم، بخلاف ما كان متّبعًا، وما زال في أنظمة الحكم الملكيّة والدكتاتوريّة، أي فكرة الملكيّة المطلقة أو حكم الرجل الواحد وتركيز سلطات الدولة التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائيّة في يد شخص واحد وهو الملك أو الحاكم، إلا أنه كان حتى نهاية القرن الماضي تقريبًا، وباستثناء فترة تاريخيّة حالكة شهدتها أوروبا أواسط القرن العشرين، وتحديدًا صعود التوجّهات النازية في ألمانيا، قبله الجميع في الدول المصنَّفة وفق التعريف السابق، لتتغيّر الأحوال في العقود الأربعة أو الخمسة، وبشكل خاصّ منذ بداية القرن الحالي في دول عديدة تتبنّى الديمقراطيّة الجوهريّة أو الليبراليّة، ما جعل العلاقة بين السلطة القضائيّة والسياسيّين في عدد من الدول ومنها بلغاريا وبولندا والولايات المتحدة وإسرائيل، متوتّرة في بعض الأحيان بسبب تضارب المصالح ومحاولات التدخّل السياسيّ في شؤون القضاء لضمان تصرّفات وتوجّهات وربما تعيينات يرتضيها الحكام، وهو ما يتعارض مع مبدأ استقلال القضاء وسيادة القانون. وهي حالة لم تكن معهودة في إسرائيل على أقلّ حدّ، رغم أن قرارات المحاكم، ومنها محكمة العدل العليا لم تكن بالضبط كما أرادها السياسيّون حتى لو شرعنت الاحتلال ومصادرة الأرض ويكفي هنا الإشارة إلى قرار هذه المحكمة بإخلاء مستوطنة ألون موريه في الضفة الغربيّة خلال رئاسة مناحيم بيغن للحكومة، أو قراراتها حول مسار الجدار الفاصل، أو الجدار الأمني في الضفة الغربيّة، أو غيرها من القضايا، مقابل موافقة على قرارات أخرى للحكومة منها إبعاد مئات من حركة "حماس" إلى منطقة مرج الزهور في لبنان، إبان رئاسة إسحق رابين للحكومة، لكن الأمور تغيَّرت كما يبدو، والدليل المواقف التي صدرت عن هذا الجهاز مؤخّرًا، وأقول هذا كمحامٍ وقضائيّ ومستشار قضائيّ لهيئات داخل إسرائيل وخارجها وكمن توجّه قضائيًّا إلى هيئات قضائيّة دوليّة منها محكمة العدل الدوليّة في هاغ، وباعتباري أؤكّد أن القضاء يجب أن لا يكتفي بإظهار العدل والحقّ وإصدار القرارات، بل عليه أن يضع الإنسان في مركز القرار ونصب عينيه أولًا وقبل كل شيء. وهي الوسيلة الوحيدة التي تجعل الجهاز القضائيّ بكل مراحله ومركّباته، أهلًا للثقة وموضعًا ينطق بالعدل دون تمييز في الجنس والعرق والدين والانتماء الطائفيّ، أو الدينيّ، أو الموقف السياسيّ، أو الموقع الجغرافيّ، وهو ما يجب أن تضمنه المجتمعات الراقية والمتنوّرة.

لا بدّ للجهاز القضائيّ أن يقبل النقد والانتقاد
هذا التوجّه والذي يمكن تلخيصه في رغبة السياسييّن في إخضاع الجهاز القضائيّ لرغباتهم، أو ترهيبه ليمتنع عن ممارسة استقلاله الجوهريّ والنطق بالحقّ والعدل خوفًا من إغضاب السلطان، ينطلق من محاولة السياسيّين إخضاع الجهاز القضائيّ لنفس الاعتبارات التي يخضع لها السياسيّ، أو لجعله يقبل بتوجيهاتهم انطلاقًا من الادّعاء، خالي المضمون حسب رأيي والقائل إن الانتخابات البرلمانيّة، أو الرئاسية ونتائجها هي الحسم والكلمة الفصل، وبالتالي فإن التصويت لجهة ما، أو لمرشح ما يعني التفويض التامّ والكامل له، حتى لو كان ذلك يشمل تغيير النظم المتّبعة والمتداولة وتغيير تركيبة القضاة واختيارهم لمناصبهم وفق انتماءاتهم السياسيّة والحزبيّة والقومية، وليس وفق مقوّمات مهنيّة وموضوعيّة كما يتمّ في الولايات المتحدة خاصّة منذ تولي دونالد ترامب مهامّ منصبه عام 2016، وكذلك في ولايته الثانية التي بدأت مطلع العام الحالي 2025، وكما حدث في هنغاريا بقيادة فيكتور أوربان وكذلك البرازيل برئاسة جايير بولسينارو (وسنعود إليه لاحقًا)، وإسرائيل منذ بداية العام 2023 وإعلان وزير القضاء بداية الانقلاب القضائيّ الدستوريّ، أو ما يسميه الائتلاف الحاكم في إسرائيل "الإصلاح القضائيّ" والذي يشمل تغيير تركيبة محكمة العدل العليا، ومنظومة اختيار القضاة وإخضاع المستشارين القضائيّين لسلطة الوزراء والمستوى السياسيّ وجعلهم تعيينات سياسيّة بدلًا من كونهم "حراس العتبة" والسدّ المنيع، أو الصوت الواضح والموضوعيّ ضد محاولة السلطة السياسيّة التأثير في قرارات المحاكم من خلال الضغوط أو التهديدات، خاصّة في قضايا حسّاسة، أو تتعلق بالفساد والجرائم السياسيّة. وذلك انطلاقًا من القاعدة الواضحة والمعروفة من أن الأنظمة السياسية الفاسدة تسعى، بطبيعة الحال، إلى إيجاد قضاء ضعيف وخائف وربما فاسد يشرعن خطواتها ويقبلها، أو يقف موقف المتفرّج والمحلّل والناصح الأمين بدلًا من إبداء الشجاعة المهنيّة والقانونيّة، والأمثلة لدينا في إسرائيل كثيرة، خاصّة في الشهرين الأخيرين أو الأشهر الأخيرة، وخاصّة بكل ما يتعلّق بقضيتي تنحية رئيس جهاز الشاباك رونين بار، ومحاولة الحكومة تنحية المستشارة القضائيّة لها عبر التفاف واضح على الوسيلة القانونيّة المتّبعة، وهي لجنة القاضي غرونيس للتعيينات المرموقة، وباختصار محاولة السياسيّين إخضاع القضاة لنفس المصالح السياسيّة والحزبيّة، وتنفيذها حرفيًّا بدلًا من الادعاء بأن الجهاز القضائيّ يجلس في برجه العاجيّ، وبعيدًا عن الناس والجماهير ويكتفي بإصدار القرارات وفق بنود مكتوبة لا تلامس المشاعر ولا تقبل النقد. ومن هنا لا بدّ للجهاز القضائيّ ودون المسّ باستقلاليّته واستقلاله أن يقبل النقد والانتقاد، وأن يتقبّل أنه لا يتمتّع بالكمال التامّ، بل إن عليه مراجعة الذات ومحاولة تصحيح الأخطاء، لكن هذا التقوقع ليس الأخطر، بل تدخّل السياسيين الفظ في شؤون القضاء هو الخطر على المواطن الذي لم ولن يتمتّع بمصداقية وعدالة وقانونيّة القضاء الموجّه من قبل السياسية والسياسيّين.

حملة سخيفة ضد رئيس الوزراء خلال الحرب العظمى
تمامًا كما هو حال الانقلاب الدستوريّ في أمريكا، يمكن القول أن العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين شهد تحوّلًا خطيرًا في السياسة الأمريكيّة سمته تصاعد التنافر والتوتر السياسيّ والاجتماعيّ والانقسامات الثقافيّة والعرقيّة ونشوء الخطاب الشعبويّ ضمن حملة دونالد ترامب الانتخابيّة، ومواقفه التي كانت معادية ومناوئة ومتحدّية للمؤسّسات القضائيّة وتلك السياسية التقليديّة، والقيم التي يقوم عليها النظام السياسيّ الأمريكيّ، واستبدالها بمواقف شعبويّة ناقمة على الوضع القائم، واتهام مؤسّسات الحكم باعتماد سياسة التهميش والإقصاء وعدم العدل، توسيع سلطاته التنفيذيّة على حساب الكونغرس. ومن هنا حاول ترامب المسّ باستقلاليّة السلطة القضائيّة، وانتقد قرارات المحكمة العليا، وألمح إلى إمكانيّة لم تكن واردة بالحسبان من قبل، وهي عدم الالتزام بها. ودفع حزبه الجمهوريّ إلى مرحلة من الراديكاليّة والولاء الشخصيّ، لكن الأمر لم يتوقّف عند ذلك الحدّ، بل إن ترامب ومن منطلق إيمانه أن القضاء في مختلف دول العالم يجب أن يتم إخضاعه لخدمة أهداف السياسيّين خاصّة إذا كانوا ممّن يعتبرون الجهاز القضائيّ خصمًا وعدوًّا (كما هو الحال منذ تولّي الحكومة الإسرائيليّة الحاليّة مناصب الحكم)، أو ربما خدمةً لأهداف ترامب، كما تمّ إخضاع الجهاز القضائيّ في البرازيل في عهد الرئيس السابق وإسرائيل حاليًّا لمصالحه هو ضمن مساعيه لضمان سيطرة الحاكم الواحد وتحويل القضاء إلى تابع ينفّذ الأوامر ويشرعن الفساد، إذ توجّه ترامب إلى المحكمة العليا في البرازيل مطالبًا بوقف محاكمة الرئيس السابق للبلاد، جايير بولسينارو، معتبرًا إياه زعيمًا قويًّا وشريكًا في الرأي، ملمّحًا أن محاكمته هي انتقام سياسيّ، خاصّة بعد أن خسر الانتخابات للرئيس الجديد لويز لولا، بينما ردّت المحكمة العليا في البرازيل مؤكّدةً عزمها على الاستمرار في محاكمة الرئيس السابق بولسينارو رغم الضغوط الخارجيّة. كما جاء على لسان القاضي إلكساندر دي مورايس، إن المحكمة لن ترضخ للعقوبات أو الضغط الأجنبيّ، دون أن يذكر بالتحديد اسم الولايات المتحدة، أو رئيسها. لكن التوترات بين الدولتين تصاعدت هذا الأسبوع، خاصّة بعد إعلان وزارة الماليّة الأمريكيّة فرض عقوبات على القاضي مورايس متهمة إيّاه بأنه "يقمع حرية التعبير" كما وقَّع ترامب مرسومًا بفرض الرسوم الجمركيّة الباهظة على البضائع البرازيليّة، ردًّا على ما وصفته واشنطن أنه "اضطهاد سياسيّ" للرئيس السابق جاير بولسينارو، ليقابله تأكيد قضائيّ وسياسيّ برازيليّ على استقلال القضاء، وكون المحكمة العليا المدافَعة عن السيادة الوطنيّة وعن الديمقراطيّة وسيادة القانون، وليس ذلك فحسب، بل إن ترامب أعلن تضامنه مع بنيامين نتنياهو الذي يخضع للمحاكمة أمام القضاء الإسرائيليّ بتهم الفساد وتلقي الرشوة وخيانة الأمانة، وطالب كما طالب البرازيل، بإلغاء تلك المحاكمات فورًا أو العفو عنه، مضيفًا أن الولايات المتحدة ستنقذه كما أنقذت إسرائيل وأنه يجب إلغاء المحاكمة لأن نتنياهو ، كما يقول ترامب، فعل الكثير من أجل إسرائيل، واصفًا المحاكمة بأنها حملة سخيفة ضد رئيس الوزراء خلال الحرب العظمى.

"اقتراحات الوساطة والتسوية"
لكن الحقيقة قد تكون صادمة، وملخّصها أن محكمة العدل العليا في إسرائيل وقضاة في محاكم مركزيّة وغيرها أخذوا يحنون هاماتهم أمام الضغوط السياسيّة خاصّة تلك المتمثّلة بالانقلاب القضائيّ والإسراع من قبل الائتلاف الحكوميّ في وصم القضاة باليساريّين والمتعاطفين مع "حماس" خاصّة على ضوء قرار المحكمة الأخير الذي يُلزم مصلحة السجون بتوفير الحدّ الأدنى من الطعام للسجناء الفلسطينيّين، ومنع أيّ تقليصات في كمية الغذاء قد تمسّ بحياتهم، وهو ما فعله وزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير منذ توليه المنصب نهاية عام 2022، والأمثلة كثيرة منها موقف المحاكم وخاصّة قاضي محكمة الصلح في مدينة ريشون لتسيون، القاضي مناحيم مزراحي الذي لم يخف موقفه الشخصيّ وليس القضائيّ حول الشبهات التي تحوم حول مقرّبي رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وخاصّة مستشاره المقرب يوناتان أوريخ، والناطق العسكريّ بلسانه إيلي فلدشتاين، والمتعلّقة بتلقيهما أموالًا من دولة قطر، خلال عملهما في مكتب رئيس الوزراء، إذ أكّد ومنذ اللحظة الأولى وقبل إتمام التحقيقات خاصّة مع المشتبهين الذين يمكثون خارج إسرائيل، أنه لن تتم تقديم لائحة اتهام، وعليه تكون الإشارة إلى أنه من أكبر مؤيّدي الانقلاب القضائيّ واليمين في إسرائيل، وهذا إضافة إلى مواقف أخرى وقرارات أصدرتها محكمة العدل العليا، كانت مضامينها أقرب إلى التحليل القضائيّ وإسداء النصائح بدلًا من إصدار قرارات حاسمة، خاصّة بكل ما يتعلّق بقضيتي تنحية رئيس الشاباك رونين بار بشكل يناقض التعليمات المتّبعة وتعيين خلف له هو الجنرال اليمينيّ المتشدّد دافيد زيني، ومحاولة تنحية المستشارة القضائيّة غالي بهراف ميارا، خلافًا للتعليمات القانونيّة، ووسط اعتراف من وزير القضاء ياريف ليفين، أن الحكومة عاقدة على التنحية ليس لسبب جوهريّ، وانما لاختلافات رأي بينها وبين المستشارة، بمعنى أنها تريد جهازًا قضائيًّا ومستشارة تعزف اللحن الذي تريده الحكومة، دون استقلال في الرأي، ودون أن تتحلّى بشجاعة لإبداء الموقف، خاصّة وأن الحكومة تريد السيطرة عبر تشريعات غريبة وعجيبة على كافّة الوظائف والمناصب القضائيّة والعسكريّة وفي الشرطة وأجهزة الأمن، وأنها التفّت على النظم المتّبعة والتي تحكم إقالة أو تنحية المستشارة، لأنها تعرف أن لا أغلبيّة للتنحية بين أعضاء اللجنة المختصّة برئاسة الرئيس السابق لمحكمة العدل العليا أشير غرونيس وخاصّة وزراء القضاء السابقين حتى من حزب "الليكود". وهو تبرير خطير قد يتبعه تبرير مشابه يتعلّق بنتائج الانتخابات مثلًا ملخّصه، أن الحكومة التفّت على لجنة الانتخابات المركزيّة، لأن اللجنة رفضت قبول إملاءات الحكومة ورفضت إعطاء الحكومة القرار، أو النتيجة التي تريدها، وهو الحال في قضية تنحية المستشارة، إذ أصدرت المحكمة قرارات خجولة وأمراً احترازيًّا يقضي بتجميد إجراءات تنحية المستشارة القانونيّة للحكومة، وذلك عقب التماس قُدّم ضدّ قرار الحكومة بهذا الشأن، كانت بمضمونها أقرب إلى "اقتراحات الوساطة والتسوية" بدلًا من ممارسة دورها وصلاحيّاتها، وهنا أطرح السؤال: لماذا تصرّفت المحكمة، كما في قضيّة تنحية رونين بار رئيس الشاباك، وكأنها مستشار سري للحكومة، بدل اتخاذ قرار نهائيّ وصارم، وإلى ذلك تضاف قضايا ومواقف أخرى منها أن المحكمة رفضت منذ بداية الحرب في أكتوبر 2023، جميع الالتماسات الطارئة التي طالبت بوقف، أو ضبط العمليّات العسكريّة لمنع المسّ بالمدنيّين، وتوفير ممرّات آمنة، وإدخال المساعدات الإنسانيّة، وتجاهلت تقارير والتماسات منظّمات حقوقيّة تتحدث عن استهداف المدنيّين، ومنشآت طبيّة، ومخيّمات اللاجئين وأصدرت موافقتها على 18 طلبًا قدّمتها الحكومة الإسرائيليّة لتأجيل النظر في التماسات تتعلّق بمنع زيارة مندوبي الصليب الأحمر للأسرى الفلسطينيّين في السجون الإسرائيليّة، وأوقفت النظر في التماسات تتعلّق بالحرب، واعتمدت على مرسوم طارئ وقّعه وزير القضاء ياريف ليفين، يقضي بعقد جلسات للنظر فقط في القضايا العاجلة مثل الاعتقالات والتحقيقات الجنائيّة المرتبطة بالحرب، ما يعني أنها أظهرت منذ بداية الحرب موقفًا مؤيّدًا لمعظم سياسات الحكومة في غزة، وأجّلت النظر في التماسات تركّزت على الاحتياجات الإنسانيّة الملّحة مثل الغذاء والرعاية الصحيّة، كما ردّت على التماس ثلاثة جنود احتياط طالبوا بوقف سياسة "ترحيل السكان" في غزة باعتبارها غير قانونيّة و"جريمة محتملة"، وتجاهلت مواقف خبراء قضائيّين وأكاديميّين إسرائيليّين حول ضرورة النظر في مدى شرعيّة وصحّة وقانونيّة ما يجري في غزة. وهو ما دفع البروفيسور باراك ميدينا من الجامعة العبريّة بالقدس إلى القول أن المحكمة، في تعاملها مع الفلسطينيّين، تتبنى فعليًّا مبادئ "الانقلاب القضائيّ"، رغم أنها لم تقرّ بعد، وأنها خضعت لمواقف السياسيّين والحكومة، وأن نهجها تغيّر كليًّا لتصبح مدافعة تامّة عن سياسات الحكومة، دون اعتبار لالتماسات مواطنين إسرائيليّين، وأقول هنا أنه لو كانت المحكمة العليا تحترم مكانتها وموضعها وصلاحيّاتها، لكان عليها التصرّف غير ذلك، وعدم التماهي مع المواقف والسياسات الحكومية، وفي قضيّة تنحية المستشارة ومحاولات الحكومة تنفيذ ذلك، كان عليها وقف مساعي التنحية وإعلانها باطلة وغير قانونيّة وعدم الاكتفاء بقرارات هشّة، ومحاولات للتوسّط والتوصّل إلى الحلول الوسط، تمامًا كما الالتماسات حول تجنيد الحريديم اليهود المتزمّتين والقرار بالاجماع لشرعنة المتهم بالرشوة والفساد للبقاء في رئاسة الحكومة.

الهدف النهائيّ هو خلق جهاز قضائيّ تسيطر عليه السلطة التنفيذيّة أي الحكومة
خطورة ما سبق تنبع من عدّة أمور أوّلها أن تصرّف الحكومة تجاه الجهاز القضائيّ عامّة ومحكمة العدل العليا ورئيسها القاضي مئير عميت خاصّة، ليس محض صدفة وليس تصرفًا عابرًا، بل إنه جزء من توجه واضح ومدروس يعني إخضاعها من جهة وجعلها أداة طيّعة، ورفض قراراتها التي لا تعجب الحكومة، ومنها ما يتعلّق بالفساد، وكما جاء على لسان وزير الاتصالات شلومو كارعي، وعدد آخر من الوزراء وأعضاء البرلمان، والهدف النهائيّ هو خلق جهاز قضائيّ، أو سلطة قضائيّة تسيطر عليها السلطة التنفيذيّة أي الحكومة، والتي تسيطر بحكم النظام السياسيّ الائتلافيّ المتبع في إسرائيل على السلطة التشريعيّة، وصولًا إلى سلطة واحدة يحكمها رئيس الوزراء والشركاء من اليمين الاستيطانيّ والدينيّ، لا تتورّع عن إصدار تشريعات تمسّ بالأقليّات وخاصّة العرب على جميع طوائفهم المسلمين والدروز والمسيحيّين وتغبن حقوقهم وتمارس التمييز العرقيّ والمذهبيّ والسياسيّ والدينيّ، وهو ما تريده الحكومة، وثانيها أن تماهي المحكمة مع سياسات الحكومة وشرعنتها حتى لو كان ذلك بسبب الحرب وحالة الطوارئ في إسرائيل، وفي ظلّ الأجواء الشعبويّة القائمة في إسرائيل، لن يشفع لها ولن يجعل السلطان يرضى عنها، بل سيزيد من عزم الحكومة الحاليّة بتركيبتها، على إخضاع السلطة القضائيّة نهائيًّا وبسط سلطان الخوف السياسيّ والجماهيريّ على رؤوس القضاة، واختيار المقرّبين سياسيًّا منهم، كما في بلاد العم سام. ومن الممكن أيضًا أن يشرعن القضاء الإسرائيليّ في المستقبل القريب إلغاء حق الانتخاب للمواطن العربيّ الذي لا ينشد النشيد الوطنيّ هتكفا (الأمل) الإسرائيليّ كلّ صباح ليثبت ولاءه للدولة.

الكفر بالتقدميّة والعقلانيّة
ختامًا، ما سبق يدقّ ناقوس الخطر، وينذر إذا ما استمر في الولايات المتحدة وإسرائيل، بعهد جديد ومخيف تتحكّم فيه المواقف الشعبويّة، وسعي الحكام المحموم إلى مزيد من القوة والسلطة إلى السيطرة على السلطة القضائيّة من جهة، ورفض استقلالها والانصياع لأوامرها، سواء السلطة القضائيّة داخل الدولة، أو تلك الدوليّة كمحكمة العدل الدوليّة ومحكمة الجنايات الدوليّة، وذلك أيضًا استجابة لغرائز المؤيّدين ورغبتهم في انتقام ممّن يرونه جهة تحاول الدفاع عن الحقوق، وتتّخذ قرارات وإن كانت منمّقة إلا أن العامّة لا يقبلونها، لأنهم لا يريدون الغوص في التفاصيل، ولا يريدون الامتثال للعقل والمنطق، بل للغرائز والعواطف، وتأكيد خطير على أن السياسة حتى في الدول التي تدّعي الديمقراطيّة، أو هي ديمقراطيّة وليبراليّة، ومنها إسرائيل والولايات المتحدة، ابتعدت إلى حدّ الطلاق البائن عن الأيديولوجيا والمنطق والعقلانيّة، واحترام فصل السلطات، وأنها أصبحت تُمارس من خلال الديماغوغيا والتصريحات الشعبويّة وتعبئة العواطف لا الأفكار، وهو ما ينسجم تمامًا مع الخطاب الشعبويّ الذي يركّز على الإثارة. وهي حالة ومرحلة خطيرة تعني الكفر بالتقدميّة والعقلانيّة، والعودة إلى ماضٍ فيه زعيم واحد شعبويّ، يلبس عمامة بوصفه المنقذ والمخلّص وحامي حمى الوطن، وهو نهج بدأ خاصة عام 2016 نجومه كثيرون ومنهم دونالد ترامب الرئيس الأمريكيّ، وماري لوبين "الفرنسيَّة"، وخيرت فيلدرز وقبلهم فيكتور أوربان البلغاري منذ العام 2010، وسبقهم كلّهم ربما سيلفيو برلسكوني "الإيطاليّ"، وكلهم شخصيّات تقدّس حكم الرجل الواحد وتمارس التمييز العرقيّ والدينيّ علنًا ودون خوف، وتجرّ وراءها المؤيّدين دون تفكير بعيد المدى، بل خلافًا للعقل والمنطق، ودون معرفة أخطارها عليهم، حتى لو بعد حين، ما يثير التساؤل حول تدهور قيم العقلانيّة والتبصّر في العالم وإخلائها الساحة للغرائز والعواطف، وعن هذا قال العالم سيغموند فرويد: "وجود الرأس في الجسد حقيقة ثابتة، لكن وجود العقل داخل الرأس تلك مسألة فيها نقاش".

ولنذكر قول دوستويفسكي "بأن أشدّ الناس تفاهة هم أولئك الذين لم يعرفوا معنى المعاناة، لأنهم لم يضطرّوا يومًا أن يفكّروا في شيء أعمق من رغباتهم".

حيفا 12.9.2025

البريد الإلكترونيّ: office@zakikamal.com