‘ دور سلطاتنا المحلية في مجابهة أزمة العنف ‘ - بقلم : د. رفيق حاج – مخطط استراتيجي
مقدمة : تشهد مجتمعاتنا العربية في الداخل واحدة من أعقد الأزمات في تاريخها الحديث، أزمة تتجلى في تفشّي العنف والجريمة بكل أشكالها، حتى غدا الأمن الشخصي للمواطن مهددًا في بيته وشارعه ومدرسته.
د. رفيق حاج – مخطط استراتيجي ، صورة شخصية
لا يجوز أن تقف سلطاتنا المحلية ومؤسساتنا مكتوفة الأيدي أمام ما يحدث بحجة أن هذه مسؤولية الشرطة وحدها. فالواقع يثبت أن ثمة صيرورة طويلة تؤدي إلى جنوح الشباب واندماجهم في عصابات الإجرام: تبدأ من البيت حيث يضعف دور الأهل في التربية، مرورًا بالمدارس التي يعاني بعضها من تسرب الطلاب وغياب العملية التربوية السليمة، وصولًا إلى انهيار المنظومة القيمية الجامعة. كل هذه المراحل مرتبطة بمستوى أداء السلطة المحلية ودوائرها، ولها الدور الأكبر في لجم انزلاق الشباب إلى الإجرام كخيار حياة.
أما الشرطة، فهي في الحقيقة المرحلة الأخيرة في هذه الصيرورة. وزجّ المجرمين في السجون لم ولن يحل المشكلة من جذورها، بل إن الواقع يبيّن أن كثيرًا من الجرائم تُحاك وتُدار من داخل السجون نفسها. لذلك، فإن الحل الحقيقي يجب أن يبدأ من المنبع لا من المصب: من التربية والوعي والفرص الاقتصادية والتدخل المبكر، وليس فقط من مطاردة المجرمين بعد وقوع الجريمة.
وبينما تتعدد الأسباب وتتداخل العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، يظل السؤال المركزي: ما هو الدور الذي يمكن أن تنهض به سلطاتنا المحلية لمجابهة هذه الأزمة؟
جذور الأزمة وأبعادها
العنف ليس ظاهرة طارئة ولا حادثة عابرة، بل هو نتاج تراكمات عميقة. فمن الناحية الاجتماعية، تبرز هشاشة الأسرة وضعف الإشراف التربوي وغياب السلطة الأبوية، إضافة إلى تراجع قيم الانتماء الجماعي. أما اقتصاديًا، فالفجوات الطبقية والبطالة وغياب فرص العمل تخلق بيئة خصبة لتفشي الإحباط والجريمة. وعلى الصعيد السياسي، فإن ضعف الثقة في مؤسسات الدولة والتعامل التمييزي مع مجتمعنا يعمّق الشعور بالاغتراب والإقصاء. ثقافيًا وإعلاميًا، تُسهم بعض الخطابات التحريضية، إضافة إلى محتوى مرئي يمجّد العنف أو يشرعنه، في تأجيج الأزمة. ومن الناحية الأمنية، فإن غياب الردع وتقصير الشرطة وضعف البرامج الوقائية تجعل الأوضاع أكثر هشاشة وخطورة.
سلطاتنا المحلية كخط الدفاع الأول
في ظل هذا الواقع، تتحول السلطات المحلية – البلديات والمجالس – إلى خط الدفاع الأول عن مجتمعها. فهي الأقرب إلى الناس، والأكثر معرفة بتفاصيل حياتهم وتحدياتهم، وبالتالي فهي الأقدر على صياغة خطط واستراتيجيات تعكس احتياجاتهم الحقيقية. المطلوب ليس إجراءات موسمية أو ردود فعل آنية، بل بناء رؤية استراتيجية متكاملة، تؤسس لمجتمع آمن، متماسك، وعادل. ينبغي أن تبدأ السلطات المحلية بمرحلة بحث مهني شامل لتحديد العوامل الأكثر تأثيرًا في تفشي العنف، ثم اختيار تلك التي يمكن العمل عليها بشكل مباشر. هذه العملية تقود إلى وضع خطة استراتيجية واضحة، تشمل أهدافًا كبرى مثل:
1. تحصين المجتمع بشكل متواصل ومنهجي
تحصين المجتمع هو الركيزة الأساسية لأي جهد يُبذل لمواجهة العنف. فالمجتمع الذي يشعر أبناؤه بالانتماء، العدالة، والمشاركة، هو مجتمع يصعب اختراقه من قِبل ثقافة العنف. المقصود بالتحصين ليس مجرد ردود فعل آنية على أحداث عنف متفرقة، بل عملية مستمرة ومنهجية تهدف إلى تقوية الروابط الداخلية بين الأفراد والجماعات.
يتحقق هذا التحصين عبر بناء أطر محلية فاعلة مثل لجان الأحياء التي تعمل على إشراك السكان في اتخاذ القرارات، مراقبة التجاوزات، وحماية الممتلكات العامة. كذلك، فإن تعزيز الشفافية في عمل السلطات المحلية ورفع نسبة تمثيل الشرائح المهمشة – كالنساء والشباب وذوي الاحتياجات الخاصة – في مؤسسات البلدة يساهم في شعور الجميع بأنهم شركاء في صياغة مستقبلهم.
ولا يكتمل التحصين دون مبادرات تعزز الانتماء المحلي، كإقامة مهرجانات سنوية تحمل اسم البلدة وتكرّس الفخر بالهوية الجماعية، أو إطلاق حملات لتجميل الحيّز العام وصيانته. فالمجتمع الذي يحتفي بإنجازاته ويكرّم رموزه، هو مجتمع قادر على بناء حصانة داخلية تردع العنف وتحاصر مسبباته. أضف الى ذلك هنالك حاجة لتعزيز سلطة القانون وملاحقة المتجاوزين بالحق العام والمتملصين من دفع الضريبة البلدية. كما وهنالك دور للمراكز الجماهيرية في تذويت القيم وعلى رأسها الانتماء وتقبل الآخر. هنالك أيضا دور لا يستهان به للجان الصلح في درء "الحروب" الطاحنة بين العائلات والعشائر.
2. التمكين الاقتصادي وتوفير فرص عمل وتعليم مهني للفئات المعرّضة للخطر
لا يمكن الحديث عن مكافحة العنف دون معالجة أسبابه الاقتصادية. الفقر والبطالة وغياب الأفق المهني هي عوامل أساسية تدفع الشباب إلى الانخراط في مسارات جانبية مثل السوق السوداء أو العصابات. التمكين الاقتصادي، إذن، ليس مجرد تحسين للدخل، بل هو أداة وقائية مباشرة ضد الانزلاق إلى العنف.
يتطلب هذا التمكين إنشاء قاعدة بيانات محوسبة عن الشباب غير المنخرطين في التعليم أو العمل، بحيث يمكن تصميم خطط فردية تتناسب مع احتياجات كل شاب. هذه الخطط قد تشمل دورات مهنية في مجالات مطلوبة، نشاطات ترفيهية بديلة تفتح أمامهم فضاءات إيجابية، إضافة إلى دعم نفسي واجتماعي للتعامل مع الضغوطات التي يعيشونها.
كما أن بناء صندوق بلدي خاص لتمويل الفعاليات التي تستهدف هذه الفئات يوفّر استدامة للمشاريع. إن توفير فرص عمل محلية، وتشجيع المشاريع الصغيرة، ودمج التعليم المهني في المدارس الثانوية، كلها خطوات عملية تجعل من الاقتصاد درعًا واقيًا يحول دون تفشي العنف في أوساط الشباب.
3. رفع مستوى الوعي العام والثقافة المدنية المضادة للعنف
العنف ليس سلوكًا فرديًا معزولًا، بل ثقافة تتغلغل حين يغيب البديل. لذلك، فإن رفع مستوى الوعي هو خطوة أساسية لإحداث تحول مجتمعي طويل الأمد. المطلوب هنا هو نشر قيم الانتماء، التسامح، وقبول الآخر، ليس فقط في المدارس بل في كل فضاء عام من البيت حتى الشارع.
تستطيع السلطات المحلية أن تضع خطة تربوية شاملة تشمل التعليم المنهجي واللامنهجي، بحيث يتم غرس قيم التعددية والتسامح في المناهج، مع توفير أنشطة ثقافية ورياضية وفنية للشباب في ساعات ما بعد الدوام. كذلك، فإن المبادرة إلى دورات خاصة بالوالدية والإدارة المالية للعائلات تساعد على تخفيف الضغوطات الأسرية التي قد تتحول إلى عنف منزلي.
الإعلام المحلي يلعب بدوره دورًا محوريًا: إطلاق حملات إعلامية مستدامة ضد العنف، ومراقبة الخطاب المنتشر على الشبكات الاجتماعية، وتحويلها إلى منصات للحوار والتآخي بدلًا من الكراهية. كما أن توظيف خطاب ديني معتدل يركّز على الرحمة والتسامح، يعزز هذه الثقافة المدنية المضادة للعنف. بهذه الطريقة، يصبح الوعي المجتمعي نفسه أداة ردع فعالة ضد أي محاولة لتطبيع العنف.
4. إحداث تغيير في سياسات الحكومة تجاه المجتمع العربي
حتى مع كل الجهود المحلية، فإن مواجهة العنف تبقى ناقصة إذا لم ترافقها تغييرات على مستوى السياسات الحكومية. التمييز البنيوي، ضعف تطبيق القانون، والتقصير في توزيع الميزانيات، كلها عوامل تساهم في تفاقم الأزمة. لذلك، من واجب سلطاتنا المحلية أن تمارس دورًا سياسيًا وضاغطًا إلى جانب دورها الخدمي.
يمكن تحقيق ذلك عبر بناء تحالفات ضغط عربية – يهودية، تعمل على رصد التمييز وتوثيقه بشكل دوري، والمطالبة بتمثيل مهني حقيقي في لجان التخطيط. رفع دعاوى قانونية جماعية ضد التمييز في التخطيط والميزانيات، بالتعاون مع مؤسسات حقوقية، يشكل وسيلة عملية لمواجهة هذا الغبن.
كذلك، فإن ملاحقة الشرطة قضائيًا وإعلاميًا في كل حالة تقصير أو إهمال بالتحقيقات، ونشر هذه المعلومات للجمهور، يعزز مناخ المساءلة. وفي المدى الأبعد، يجب العمل على سن قوانين صارمة ضد حيازة السلاح، وضمان تطبيقها فعليًا في بلداتنا. هذه الخطوات تجعل من السلطات المحلية لاعبًا سياسيًا أساسيًا، قادرًا على تغيير قواعد اللعبة، لا مجرد متلقٍ لقرارات فوقية.
أدوات العمل: الهيئة العليا لمجابهة العنف
لترجمة هذه الأهداف إلى واقع ملموس، لا بد من إقامة هيئة محلية عليا لمجابهة العنف. هذه الهيئة ليست جسمًا شكليًا، بل آلية تنظيمية تجمع بين التمثيل الواسع والبنية المهنية الواضحة. أهميتها تنبع من كونها تؤسس لتنسيق العمل بين مختلف أقسام السلطة المحلية، وتحويل الجهود من ردود فعل متفرقة إلى تخطيط استراتيجي طويل المدى
تركيبة الهيئة
• رئيس السلطة المحلية: يقود الهيئة ويضمن تنفيذ قراراتها.
• مدير قسم المعارف: يدمج خطط الوقاية والتربية في النظام التعليمي.
• مدير قسم الشؤون الاجتماعية: يتعامل مع الحالات الهشة والأسر المتضررة.
• مسؤول وحدة مكافحة العنف: المحور المهني للتنسيق والتنفيذ.
• المستشار القانوني: يضمن شرعية الخطوات وصياغة سياسات قانونية.
• ممثلو لجان الأحياء: ينقلون نبض الشارع واحتياجات السكان.
• ممثل عن الشباب/قسم الشباب: لإعطاء صوت حقيقي للجيل الصاعد.
• ممثل عن المجتمع المدني المحلي: لربط البلدة بالمبادرات الأهلية.
• ممثلة عن شؤون النساء: لتسليط الضوء على البعد الجندري والعنف ضد النساء.
• ممثل عن لجان الصلح
• ممثل عن المراكز الجماهيرية
• رجل دين معتدل: لترسيخ خطاب ديني يعزز الرحمة والتسامح.(رجال دين)
• مستشار تنظيمي: لتحليل المعطيات وتوجيه العمل مهنيًا.
• مسؤول الإعلام البلدي: لإدارة الرسائل العامة والتواصل مع السكان.
• مسؤول عن تجنيد الأموال: لتأمين موارد تمويلية تضمن استمرارية المشاريع.
مسؤوليات الهيئة
• إعداد خطة استراتيجية محلية لمجابهة العنف.
• تنسيق العمل بين أقسام البلدية والشرطة الجماهيرية.
• إنشاء لجان فرعية متخصصة (شباب، نساء، تدخل ميداني).
• متابعة المؤشرات الميدانية لقياس مستوى العنف.
• تنظيم فعاليات توعية وتثقيف جماهيري.
• تقديم تقارير دورية للبلدية والوزارات ذات الصلة.
• إشراك السكان في القرارات وتعزيز الشفافية.
• إقامة صندوق بلدي لدعم التدخلات المحلية والتربوية.
آليات العمل والمتابعة
تجتمع الهيئة أربع مرات سنويًا على الأقل، مع إمكانية عقد جلسات طارئة عند الحاجة. تُدار الجلسات وفق جدول أعمال واضح وتستمر لثلاث ساعات على الأقل. في نهاية كل جلسة يُعد محضر مفصّل يتضمن القرارات والمهام الموزعة. وتُستخدم أنظمة محوسبة لمتابعة التنفيذ، مع نشر ملخصات الجلسات على الموقع البلدي لضمان الشفافية.
مؤشرات قياس النجاح
• انخفاض عدد حوادث القتل والاعتداءات.
• ارتفاع نسبة الشعور بالأمان لدى السكان.
• ازدياد حجم المشاركة المجتمعية في الفعاليات الوقائية.
• تراجع حوادث إطلاق النار والابتزاز.
شراكة مجتمعية وسياسية
لا يمكن للسلطات المحلية أن تنجح وحدها. فمواجهة العنف تحتاج إلى تحالف واسع يشمل مؤسسات المجتمع المدني، المدارس، الحركات الشبابية، ورجال الدين، إلى جانب بناء شراكات مع القوى الديمقراطية والحقوقية اليهودية. كما أن مواجهة التمييز المؤسسي تتطلب رفع دعاوى قانونية جماعية، توثيق التقصير الشرطي، والمطالبة بميزانيات عادلة في مجالات التخطيط والتطوير.
نحو مجتمع آمن ومتماسك
إن بناء مجتمع عربي آمن ليس ترفًا ولا خيارًا ثانويًا، بل هو شرط لبقاء أجيالنا القادمة على هذه الأرض بكرامة وأمن. لن نستطيع وقف شلال الدم بين ليلة وضحاها، لكننا قادرون على تغيير المسار طويل الأمد: مسار يقطع الطريق على "تأهيل" المجرمين، ويعيد الاعتبار للقيم الأصيلة في العادات والتقاليد، ويؤسس لثقافة سلمية جامعة.
سلطاتنا المحلية مدعوة اليوم إلى أن تمسك بزمام المبادرة: بيد تفضح تقاعس الدولة وأجهزتها الأمنية، وبيد أخرى تبني حصانة مجتمعية داخلية، قادرة على حماية الناس وردع المعتدين. فالمعركة ضد العنف ليست فقط أمنية أو سياسية، بل هي أيضًا تربوية، اقتصادية، وثقافية – وهي مسؤولية جماعية تبدأ من البيت والحيّ، وتتكامل عبر مؤسساتنا المحلية حتى تصل إلى الدولة.
من هنا وهناك
-
‘الزمن الرقمي… يفضح النفاق‘ - بقلم: بشار مرشد
-
قراءات في مقالات المحامي الكبير والكاتب زكي كمال | بقلم الدكتور حمد طربيه
-
‘معركة الإنسان مع نفسه قبل أن تكون مع الآخرين‘ - بقلم: رانية مرجية
-
‘فلسفة التنكّر والجحود… هندسة اليأس وتدمير الأمم‘ - بقلم: بشار مرشد
-
مقال: الغزيون بين النزوح والخذلان: من يدفع ثمن الصمود؟ بقلم : أسامة الأطلسي
-
د. حسام عازم من الطيبة يكتب: فلسطين من قضية وطنية إلى وجدان إنساني
-
مقال: صوت في البرلمان وتنظيم الميدان بتغير الميزان‘ - بقلم : المحامي محمد غالب يحيى
-
‘ لماذا المشاركة في الانتخابات مهمة جدا ؟ ‘ - بقلم: الكاتب اسعد عبدالله عبدعلي
-
نتنياهو واستراتيجية ‘بناء الفشل‘ - بقلم: المحامي علي حيدر
-
‘توني بلير ... وقصتنا مع هذا الرجل‘ - بقلم : تيسير خالد
أرسل خبرا