‘الفصل بين العقبة وايلات: الجغرافيا تصنع التاريخ والسياسة ترسم الحدود‘ - بقلم: د. طارق محمود بصول
من المجالات التي تتناولها الجغرافيا مجال الجغرافيا التاريخية السياسية، وهو المجال الذي يربط بين المدى والمكان بوصفهما عنصرين جغرافيين، والزمن الذي يمثل البعد التاريخي. أما العامل السياسي، فإنه يندمج ضمن إطار القرار والزمن،
د. طارق محمود بصول - صورة شخصية
أي إن القرار في حينه يكون سياسيًا، ثم يُتناول لاحقًا بوصفه حدثًا تاريخيًا.
وقد أشار عدد من المختصين في هذا المجال إلى أن الجغرافيا تطرح تساؤلات من قبيل: ما سبب إقامة مدينة في موقع معيّن؟ وما سبب الفصل الجغرافي بين عائلات أو طوائف أو أفكار؟ وللإجابة عن مثل هذه الأسئلة، نعود إلى الوثائق التاريخية، أي إن التاريخ يزوّدنا بالإجابات.
ومن هنا، لفهم سبب فصل مدينة العقبة عن إيلات — وهما المدينتان الواقعتان في الطرف الشمالي لخليج البحر الأحمر الشرقي لشبه جزيرة سيناء — لا بد من تتبّع القرارات التاريخية والأحداث السياسية التي شهدتها المنطقة.
تتم عملية تثبيت الحدود بين دولتين عادة عبر ثلاث مراحل رئيسة:
المرحلة الأولى هي إيفاد وفد مختص من كلا الطرفين، غالبًا ما يضم باحثين في الجغرافيا والخرائط، للتوصل إلى اتفاق حول مسار الحدود.
المرحلة الثانية تتمثل في رسم الحدود على الخريطة وتطبيقها ميدانيًا على الأرض.
أما المرحلة الثالثة فهي اعتماد الحدود رسميًا من قبل هيئة الأمم المتحدة أو جهة دولية معترف بها.
قبل تأسيس هيئة الأمم المتحدة عام 1945، كانت عملية تثبيت ورسم الحدود تتم بطرق مختلفة جذريًا، إما عبر الاحتلال والضم، أو من خلال اتفاقيات التقسيم التي كانت تعقدها القوى الاستعمارية الكبرى مثل بريطانيا وفرنسا، كحال اتفاقيات الانتداب بعد الحرب العالمية الأولى.
أما فيما يتعلق بفصل إيلات عن العقبة، فقد مرت العملية بأربع مراحل تاريخية رئيسة:
المرحلة الأولى (1906)
بعد عودة القائد العثماني رشيد باشا من إخماد ثورة في اليمن، استراح في منطقة العقبة، حيث وجد فيها قوة عسكرية مصرية فقام بطردها. تجدر الإشارة إلى أن الدولة العثمانية كانت تحكم بلاد الشام منذ أوائل القرن السادس عشر (1516) وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918. إثر هذا الحادث تدخلت بريطانيا، التي كانت تسيطر على مصر آنذاك، وبعد مفاوضات بين الجانبين تم الاتفاق على أن تكون منطقتا العقبة وإيلات ضمن نطاق النفوذ العثماني، بحيث امتد الحد من جنوب قطاع غزة الحالي حتى غرب إيلات، وبذلك بقيت المدينتان ضمن السيادة العثمانية.
المرحلة الثانية (1915–1919)
شهدت هذه الفترة أحداثًا سياسية حاسمة، منها مشاركة العرب بقيادة الشريف حسين في الثورة ضد الدولة العثمانية إلى جانب بريطانيا، واتفاقية سايكس–بيكو في أيلول 1916 التي أوصت بتقسيم المنطقة جغرافيًا بين النفوذ الفرنسي والبريطاني، ووعد بلفور الصادر في 2 تشرين الثاني 1917 الذي نصّ على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
في مؤتمر فرساي للصلح عام 1919، شاركت الوكالة الصهيونية وطالبت بتحديد حدود الدولة اليهودية بالاعتماد على هاتين الوثيقتين: فالأولى، سايكس–بيكو، مثّلت الواقع السياسي القائم آنذاك، بينما الثانية، وعد بلفور، عبّرت عن الرؤية المستقبلية للمشروع الصهيوني.
طالبت الوكالة بأن تمتد الحدود الشرقية قرب خط سكة الحديد المارّ بالقرب من عمّان وصولًا إلى العقبة، إلا أن التعديل اللاحق حدّد الحد إلى الغرب، وكانت تلك أول مرة يُفصل فيها بين العقبة وإيلات. هذه كانت رؤية نظرية، أما التطبيق العملي فقد جاء في المرحلة التالية.
المرحلة الثالثة (1920–1925):
بعد انتهاء الحكم العثماني في المنطقة وبداية الحكم البريطاني عام 1918، خضعت البلاد خلال السنتين الأوليين (1918–1920) لإدارة عسكرية بريطانية. وفي عام 1920 وصل إلى البلاد أول حاكم مدني، هربرت صموئيل، إيذانًا ببدء الانتداب بشكل رسمي، الذي ثُبّت لاحقًا مع صدور صك الانتداب في تموز 1922.
مع بداية الانتداب، شرعت بريطانيا في تنظيم الحدود الإدارية بين شرقي نهر الأردن وغربه، أي بين حكم الأمير عبد الله بن الشريف حسين شرقًا، والمندوب السامي البريطاني غربًا، بالرغم من أن سلطة المندوب السامي كانت تمتد فعليًا من العراق حتى البحر المتوسط.
من أجل تنفيذ عملية ترسيم الحدود، استدعى وزير المستعمرات البريطاني (تشرتشل) كلا الطرفين المعنيين بالحد — الأمير عبد الله ممثلًا عن شرق الأردن، والمندوب السامي ممثلًا عن الغرب — لعقد مشاورات رسمية في لندن. خلال الاجتماع، عرض المندوب السامي فكرة ضم العقبة إلى النفوذ الغربي (أي إلى بلادنا الانتدابية)، إلا أن تشرشل، وزير المستعمرات آنذاك، رفض الاقتراح مستندًا إلى سببين رئيسين:
1. سبب تاريخي: أن قوات الشريف حسين، والد الأمير عبد الله، هي التي حررت العقبة من الحكم العثماني.
2. سبب جغرافي: أن العقبة تمثل المنفذ البحري الوحيد لشرق الأردن.
وبناءً على هذين الاعتبارين، تقرر تثبيت الفصل بين العقبة وإيلات رسميًا على أرض الواقع، وهو القرار الذي أرّخ فعليًا لانفصال الجغرافيتين في أقصى الجنوب.
المرحلة الرابعة (1947–1949):
عند صدور قرار تقسيم فلسطين عام 1947، رُوعي في التقسيم التوزيع الديموغرافي للسكان؛ فالمناطق ذات الأغلبية العربية أُلحقت بالدولة العربية، والمناطق ذات الأغلبية اليهودية أُدرجت ضمن الدولة اليهودية. وبناءً على ذلك، استُبعدت العقبة ذات الأغلبية العربية من القسم المخصص للدولة اليهودية، بينما أُبقيت إيلات ضمنه.
وفي 10 آذار/مارس 1949، تمكن الجيش الإسرائيلي من السيطرة رسميًا على مدينة إيلات، ما مثّل المرحلة النهائية في فصلها عن العقبة.
للختام: يتضح من هذا التسلسل التاريخي أن الجغرافيا لم تكن مجرد خلفية للأحداث السياسية، بل كانت عاملاً فاعلًا في صياغة القرارات وتحديد مصائر المدن والحدود. فالعقبة وإيلات ليستا مجرد مدينتين متجاورتين على شاطئ البحر الأحمر، بل تمثلان نموذجًا واضحًا لتفاعل الجغرافيا مع التاريخ والسياسة، حيث يُعيد المكان صياغة القرار، ويحوّله الزمن إلى حدث يترك أثره في الجغرافيا والذاكرة معًا.
من هنا وهناك
-
‘الزمن الرقمي… يفضح النفاق‘ - بقلم: بشار مرشد
-
قراءات في مقالات المحامي الكبير والكاتب زكي كمال | بقلم الدكتور حمد طربيه
-
‘معركة الإنسان مع نفسه قبل أن تكون مع الآخرين‘ - بقلم: رانية مرجية
-
‘فلسفة التنكّر والجحود… هندسة اليأس وتدمير الأمم‘ - بقلم: بشار مرشد
-
مقال: الغزيون بين النزوح والخذلان: من يدفع ثمن الصمود؟ بقلم : أسامة الأطلسي
-
د. حسام عازم من الطيبة يكتب: فلسطين من قضية وطنية إلى وجدان إنساني
-
مقال: صوت في البرلمان وتنظيم الميدان بتغير الميزان‘ - بقلم : المحامي محمد غالب يحيى
-
‘ لماذا المشاركة في الانتخابات مهمة جدا ؟ ‘ - بقلم: الكاتب اسعد عبدالله عبدعلي
-
نتنياهو واستراتيجية ‘بناء الفشل‘ - بقلم: المحامي علي حيدر
-
‘توني بلير ... وقصتنا مع هذا الرجل‘ - بقلم : تيسير خالد
أرسل خبرا